چکیده:
التقديم والتأخير من أهم مباحث علم المعاني، الذي يبحث في بناء الجمل، وصياغة العبارات، ويتأمل التراكيب، لكي يبرز ما يكمن وراءها من أسرار ومزايا بلاغية، ومن المسلم به أن معنى الجملة ليس هو مجموع معاني المفردات التي تتألف منها، بل هو حصيلة تركيب هذه المفردات في نمط معين، حسب قواعد لغوية محددة، كما أن الساعة مثلا، ليست مجموع القطع المعدنية التي تتألف منها، وإنما هي آلة تتكون من هذه القطع حسب قواعد معينة، لتؤدي وظيفة لا تؤديها أ ي من القطع وحدها، ولا تؤديها كل القطع مجتمعة إلا إذا ركبت بطريقة محددة. فنسق الجملة وكيفية ترتيب الأجزاء فيها، ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار، ذلك أن المعنى يتولد فقط من ترتيب الألفاظ والعبارات، ومعنى هذا أن لكل تركيب نظمه وترتيبه، ومواقع ألفاظه. والترابط في الكلام ووضع كل كلمة في مكانها المناسب من الجملة، من أهم مقومات البلاغة والبيان، وكثير
من الكلمات لو قدمتها أو أخرتها عن محلها لتغير عليك المعنى الذي تريد، أو ضاع جماله ورونقه، لأن تقديم اللفظ وتحويله من مكان إلى آخر، يغير المعنى. وتغيير المعنى بتقديم اللفظ، وتحويله عن مكانه، لا يكون جزافًا وعبثًا، وإنما يتم وفق أسس وضوابط، وأغراض يقصد إليها المتكلم، فيقدم ما يريد التنبيه عليه والالتفات إليه، ويؤخر ما لمي ِ رد فيه ذلك. ويتميز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمة، والدقة في اختيار موضعها، فإذا قدم كلمة على أخرى فلحكمة لغوية وبلاغية تليق بالسياق العام. إذن فلكل كلمة في موضعها من الجملة معنى، متقدمة كانت أو متأخرة. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يقدم بعض الكلام على بعضه الآخر؟ وما جدوى ذلك؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه في هذا البحث.