خلاصة:
عام 1960، وبعد ثلاث وثلاثین سنة من ظهور کتاب هیدغر: "الکینونة والزمان"، ظهر فی ألمانیا کتاب "الحقیقة والمنهج" لصاحبه هانز غیورغ غادامیرH.G. Gadamer (1900- 2002)؛ الفیلسوف الهرمینوطیقیّ الذی عمّر طویلًا، وأبدع ضمن خانة الوعی التأویلیّ. لقد سلک غادامیر مسلک هیدغر فی نقد الهرمینوطیقا التقلیدیّة المهووسة بالمنهج، واعتبر أنّ القضیة الأساس لا تکمن فی الطریق المیتودولوجی للفهم بقدر ما هی فهم الفهم نفسه، وکشف مساراته التاریخیّة والسیاقیّة والجمالیّة. یقول غادامیر فی السیاق ذاته: "وجدتُ -من جانبی- المنطلَق الأوّل فی نقد المثالیّة (Idealismus) والمنهاجویّة (Methodologismus ) اللتین میّزتا عهد نظریّة المعرفة. امتداد مفهوم الفهم إلى "الوجودیّ" عند هیدغر؛ بمعنى التصمیم الحاسم “للدازاین” (الوجود -فی- العالم) «Dasein»، یعبّر عندی عن مرحلة حاسمة؛ إذ حملنی هذا المفهوم -بحکم تحریضه- على مجاوزة مناقشة المشکلات المرتبطة بنقد المنهج لتوسیع مسألة التأویل فی ما وراء حقل العلم وإدراج تجربَتی الجمال والتاریخ. هذا الاستشهاد غایة فی الأهمّیّة؛ لأنّه یبیّن مدى تأثیر هیدغر البالغ فی هرمینوطیقا غادامیر من خلال مفهوم الدازاین ذی الحمولة الأنطولوجیّة الصرفة، ویبیّن کذلک المسار الذی سیسلکه غادامیر فی الهرمینوطیقا والمُؤَسَّس على نقد المنهج والعلمویّة وتدعیم موقع التاریخ وزمانیّة الفهم، وکذا قلب التصوّر حول الفنّ الذی اختزلته الإستطیقا إلى إنتاج جمالیّ فقط. والحقیقة أنّه یعبّر عن حقیقة حیّة ومستقلّة هی التی یجب على التأویلیّة رصدها، على اعتبار أنّ الحقیقة الفنّیّة أجدر بالبحث والفهم من غیرها.
ویبدو أنّ سؤال الفهم هو الذی یمکن أن یوجّه هذه المحاولة، ویبیّن بالموازاة مع ذلک تمفصلات الهرمینوطیقا الغادامیریّة، ولاسیّما أنّ الأسئلة کثیرة هنا؛ أسئلة تفصح عن طابع إشکالیّ أصیل؛ من قبیل: ما الفهم عند غادامیر؟ وما موقف التأویلیّة عنده من قضایا التراث واللغة والتاریخ؟ وهل یدشّن العقل الهرمینوطیقیّ عند صاحب "الحقیقة والمنهج" لما یسمّى بـ "فوضى المعنى"، أم یشکّل قاعدة أصیلة للفعل التأویلیّ؟ وما موقف غادامیر من مسألة المنهج والحقیقة: هل هما متعالقان أم منفصلان؟ وأسئلة أخرى تنظر إلى الهرمینوطیقا الفلسفیّة فی ظلّ علاقاتها بالفنّ والجمال والأحکام المسبقة...