خلاصة:
إن الباحث في تراث "الجاحظ" يمكنه اكتشاف بعض الجوانب الخفية حينا، والمهملة حينا آخر للعبقرية اللسانية التي
ميّزت هذه الشخصية الفذة، وخاصة إدراكه المذهل للوظيفة الأساسية للغة –طبعا- دون إقصاء الوظائف الأخرى .
لقد أدرك الجاحظ إدراكا تاما لأصول اللسانيات، عندما تطرق في كتابه الحيوان للغة إذ يراها بين الإلهام والاصطلاح، في
أوّلها إلهام من ن الله البشر من الاشتقاق والتصرف بها، ودليله في ذلك أنه لو كانت اللغة إلهاما لما
ّ
الله للناس جميعا، ولكن مك
تمكن الناس من الاستبدال والاشتقاق ووضع كلمات جديدة، ويقول في ذلك: " ...فإذا كان العرب يشتقون كلاما من كلامهم،
وأسماء من أسمائهم، واللغة عارية في أيديهم ممن خلقهم ومكنهم وألهمهم وعلمهم، وكان ذلك منهم صوابا عند جميع الناس، فالذي
أعارهم هذه النعمة أحق بالاشتقاق وأوجب طاعة، كما أن له أن يبتدئ الأسماء فكذلك له يبتدئها مما أحب." 1 أما في الجانب
الاصطلاحي فنلفيه يتكلم عن إسهام المتكلمين والمنظرين في إثراء اللغة بألفاظ جديدة فيقول: "وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك
المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم فصاروا في ذلك
سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع..." 2 بهذا يقترب الجاحظ من الرؤية الحديثة لعلم اللسانيات النظري في معالجته النظرية لمفهوم
في نظريته التي تقول:" إن اللغة إلهام على حد تعبير Chomsky اللغة، حيث يعتقد ما اعتقد العالم الغربي اللغوي تشومسكي
م النظام اللغوي واكتسابه
ُّ
الجاحظ وذلك أن الطفل مهيأ لتعلمها، بل إن المراكز البيولوجية في دماغه مصوغة ومخططة لتعل ..." 3
تكاد تجمع المصادر على أنّ علم اللسانيات منجز غربي، في حين أن المتتبع للدرس اللغوي العربي يدرك أن التراث العربي
غنيّ بالدراسات اللسانية، إذ توجه العلماء العرب أمثال الخليل وسيبويه وابن جنّي... إلى الظاهرة اللغوية وتناولوا مجموعة من
الدراسات الصوتية التركيبية، كالإبدال، والإعلال، والقلب، والإدغام، والإخفاء، والإظهار، والوقف، والمعاقبة(. إن الكثير من
المعارف اللسانية التي أصبحت رائجة في الساحة اللغوية المعاصرة نلفي جذورا لها في الدراسات اللغوية التراثية العربية، ولعلّ خير
دليل على ذلك ما قدّمه العالم الجليل "الجاحظ" حين اهتم بالظاهرة اللغوية وما يصيبها من اضطراب وعيوب، ذاكرا الحروف
التي تلحقها هذه الاضطرابات، والأعضاء النطقية المسؤولة عنها، وبالتالي نجده يشير بشكل غير مباشر إلى علم جديد هو ما
يصطلح على تسميته حاليا ب " الأرطفونيا". لنا أن نتساءل: فيما تتجلى المساهمة الفعالة للجاحظ في إرساء هذا العلم؟