ملخص الجهاز:
"ولن تجد ـ غیر الحج ـ مؤتمرا یذیب الفرد فی الجماعة والجماعة فی الفرد، فإذا بالأعمال الفردیة تضمحل لتمتزج فی أجواء الجماعة، وأجواء الجماعة تضمحل لتمتزج فی الأعمال الفردیة؛ بحیث أن الحاج یظل ـ فی أیام الحج ـ عاکفا علی نفسه یحاول اکتشافها وسبر أغوارها، قد شغل بحدیث النفس والمناجاة ، وتصفیة باطنه مما علق به من الشوائب، وهذا من قبیل الرهبانیة التی یمارسها الرهبان المنقطعون عن هذا الخلق، وهی تدعو صاحبها إلی الخلوة والاعتزال ومفارقة الناس، وتؤکد فردیة الفرد.
منی: أرض الآمال، أرض معرکة إبراهیم المنتصرة، وفیها یؤدی أکثر مناسک الحج صعوبة فی زمان یزید علی کل مدة الحج، مع أن ما یؤدی فیها هو من أقصر الفروض، منی أرض الصراع ضد الشیطان، وأرض القرابین، والتقصیر، ووصل اللیل بالنهار علی حال من الخوف والرجاء، بذهنیة ومعنویات المجاهد الصامد الذی یدأب فی ثلاثة أیام متوالیة علی إسناد المعرکة وتغذیتها والاستمرار فیها حتی الوصول إلی النصر المحتم علی العدو، ویواصل هذا الجهاد مشفوعا بالنشاط والأمل والاجتهاد والیقظة.
ومن هنا فإن نحر الأضحیة ـ وهو آخر أعمال الحاج فی حال الإحرام ـ إلی جانب کونه إحیاء لذکری فداء إبراهیم العظیم فی مقابل تلک التضحیة التی تحیر العقول وتأخذ بالألباب، فإنه یعلم الحاج التضحیة بماله فی سبیل الله، تضحیة تعود علیه وعلی سائر المسلمین بالنفع المادی، فکلوا منها وأطعموا البائس الفقیر (5) .
وتقریب هذه الصورة أکثر، افترض أن الکعبة مرکز لدوائر کثیرة یحیط بعضها بالبعض الآخر، أولها المطاف ـ وهو أقرب وأصغر دائرة ترسم بالطواف حول البیت ـ وآخرها ما یستدیر فی أقصی نقاط الأرض المختلفة، وتتشکل هذه الدوائر من المصلین الذین یتوجهون من جهات هذا العالم الأربعة إلی الکعبة المکرمة، ولو أنک أمعنت النظر فی دائرة من هذه الدوائر، لرأیت أن المصلین فی حالة من الطواف، غیر أنه طواف ساکن بصورة الصلاة."