ملخص الجهاز:
"3 ـ یسأل القارئ: هل بقی شیء من الأخلاق؟ وهل یترک سیل النسبیة العارم شیئا من القیم المتعالیة والمتبوعة لیتطلع الناس للحیاة من أجلها، ویفدون أنفسهم لها؟ وهل من مفر من هذا المأزق؟ حیثما أردنا اللجوء إلی الأحکام الرصینة غیر القابلة للاستثناء اعترضتنا حجج رصینة لم نفکر بها من قبل، وأینما أقبلنا علی الأخلاق الحاضرة جاءنا شهود صادقون علی وجود ثغرات فی جمیع الأحکام الأخلاقیة، وکلما أردنا سد تلک الثغرات کبل أیدینا «الغموض الذاتی للأخلاق»، وحین بحثنا عن الاطمئنان فی الاستناد إلی الفطرة الثابتة رأیناها تؤید ورود الاستثناءات علی الأخلاق، فهی تنسجم مع أصناف المجتمعات علی تنوع أخلاقها، وإذا أردنا العمل بقاعدة «الصدفة لا تکون دائمیة ولا أکثریة» لم نتمکن من معالجة ضعفها وهزالتها، وإذا أردنا الحیاة من دون التلطخ بالکذب والخیانة والتکبر والحقد رأینا أنفسنا فی عداد السذج، ولو طلبنا التوقف اصطدمنا بالتنمیة وتکامل التأریخ والصناعة التی لا مفر منها، وإذا صرخنا بأن المجتمعات الحدیثة عدیمة الأخلاق، أو سیئة الأخلاق، ضحک العالم من سخافة عقولنا، وقال: هل لدینا أخلاق واحدة فقط؟!
حار کثیر من المثقفین فی أمره، فلأول مرة تظهر فی أفق تأریخ البشریة المظلم بوادر بزوغ نظام عادل، یدعمه العلم والأخلاق، طاویا الصفحات المظلمة؛ لیکتب صفحة مشرقة فی تأریخ البشریة، ألا وهو «النظام الاشتراکی»، فهل من الإنصاف أن یقفوا بوجه تلک الرذائل والمفاسد علی الرغم من ظهور علامات تحقق الآمال البشریة؟ وهل یمکنهم حرق جنة بأکملها لوجود الشوک فیها؟ ما أربک هؤلاء (عدا المغرضین منهم) هو الاعتقاد بنظام أخلاقی أفضل، والذی کان فی حقیقته عدم الأخلاق، وأیدوا جمیع الرذائل الموجودة بغیة تحقق عدل خیالی لم یبلغوه یوما، وغضوا الطرف عن انتهاک کرامة الإنسان، وحرمته، والاعتداء علیه، ومصادرة حریاته، وکبته وقمعه، أملا فی ولادة إنسان شجاع وفرید فی التأریخ، ولم یخطر فی بالهم أن العدل لیس اسما لموجود، بل هو تحقق الأحکام الأخلاقیة، ولا یتجلی إلا فی إطار هذه الأحکام، والمجتمع الذی ینتهکها لا فضیلة له، ولا یستحق الدفاع."