چکیده:
الرقابة كلّ عمل قامع للفكر وللإبداع، وخاصّة الأعمال الخارجة عن مألوف التّصوّر، فهي بهذا الشّكل موجودة في كلّ زمن يمارسها من كلّ من يری في نفسه القدرة، والتّمكين، والقهر إذ هي عمل يحتاج إلی شرعيّة تعضده، وتحمل علی الخضوع له، وهذه الشّرعية إنّما هي سلطويّة ضرورة، وربما نفهم السلطة انطلاقا من وجهة النّظر السّياسية، ولكنّها أوسع من ذلك بكثير؛ فالسّلطة إذا كانت فعلا قاهرا محقّقا للغلبة فإنّها ماثلة في كلّ فعل له هذه الصفة، والكلام هو فعل النّاس الغالب حضورا، ففي الخطابات إذن تتجسّم السّلطة، وقد لا تظهر علی سطح الخطابات بقدر ظهورها في عمقها، ومقصدها ما يتطلب نظرا وتحقيقا، بل لعل السّلطة هي في الحقّ التّجسيم الخطابي للقوة القاهرة، وإذا كانت السلطة فعل كلام فإنّها بهذا الشّكل أقرب إلی مجالات الكلام مثل الأدب، والنّقد، وهما مجال الفضل، والتفوق عند العرب القدامی، وفعلا، إذا نظرنا إلی بعض أعلام النّقد القديم أدركنا مدی إيمانهم بشرعيّة ممارسة الفعل النّقدي الرقابي التسلطي القاهر علی المبدعين من أجل تكريس مبادئ، والحفاظ علی توجّهات، وهذا أمر يستحقّ النّظر حقيقة، وهذا ما اتّجهنا إليه في هذا المقال الذي يتناول علما من أعلام السّلطة النقدية عند العرب هو الآمدي ممارسا لقهره السّلطوي الرّمزي، مراجعا علما من أعلام التّحدي الشّعري العربي هو أبو تمام، محاولا إيقاع غلبة قديمه علی حديث الشّاعر، وقمع سعيه إلی الإبداع، ومراقبة فعله الإبداعي كما تفعل كلّ سلطة مع كلّ تمرّد.
خلاصه ماشینی:
هذه السلطة النقدية تعتمد العنف وسيلة لإنفاذ أحكامها كما يكون الأمر عند كل نوع من أنواع السلطة، وطبعا لا يمتلك الناقد أدوات العنف المادية، وإنما يمتلك أدوات عنف آخر ربما يكون أكثر شدة وأثرا، هو العنف الرمزي الذي هو ممارسة مؤسساتية للعنف، أي يمارسه المسؤولون في المؤسسة في ضوء سلطاتهم الشرعية على الأفراد بهدف السيطرة عليهم، والتحكم فيهم، وإخضاعهم بحسب ما يناسب أفكارهم، وأهدافهم، ومعتقداتهم، وطبعا كل عنف يجسم سلوكا عدوانيا، فالعنف يقترن دائما بالقوة والإكراه، وهو سلوك يتسم بالعدوانية، ويحدث أضرارا للطرف الأضعف()، ويتجسم العنف الرمزي في الممارسة اللغوية، وأشكال الخطاب لأن المتسلط يبث إشارات عدوانية تحتمل قرائن الاستهزاء، والتبخيس، والكراهية()، ولما كان النقد العربي القديم مؤسسة، لما كان الناقد يعتقد أنه قيم على مبادئ المؤسسة، ومكلف بحفظها من الزوال أقبل على ممارسة هذا العنف تجاه المبدعين، وفعّل سلطته القامعة بتقديمه لرؤاه التّصوّرية العامّة، وبتنفيذه منهجه النقدي، وباعتماده خطابا مخصوصا، فمقاصده الرقابية تتجسّم في الإنجاز التّلفظي، ومن تجليات هذا الإنجاز التّنظيم، والتّرتيب، واللّهجة، والطّريقة، وبكلمة ما نصطلح عليه الأسلوب، ومن الأسلوب فلسفة القائل في بناء أقواله، أو الكاتب في بناء كتابه، وعلى هذا نحن سنتناول كتاب الآمدي، وسننظر في ما يجسم عمله التسلطي الرقابي القامع للإبداع الشعري الأسس الفكرية لعمل الآمدي النقدي: وضع الآمدي القضية في إطارها الفكريّ منذ المنطلق؛ فقد أشار صراحة في بداية كتابه إلى الخلاف الواقع بين أنصار كل شاعر، وليس هذا الخلاف عرضيّا أو عابرا وإنّما هو أصيل، عميق الجذور، هو خلاف في القناعات، وأشكال اليقين لأن من فضّل أبا تمّام " نسبه إلى غموض المعاني، ودقّتها، وكثرة ما يورده ممّا يحتاج إلى استنباط، وشرح، واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني، والشّعراء أصحاب الصّنعة، ومن يميل إلى التّدقيق، وفلسفيّ الكلام "()، ومن فضّل البحتري فقد "نسبه إلى حلاوة اللّفظ، وحسن التّخلّص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحّة العبارة، وقرب المأتى، وانكشاف المعاني، وهم الكتّاب، والأعراب، والشّعراء المطبوعون، وأهل البلاغة "()، ومن هؤلاء من اعتقد أن البحتريّ " أعرابيّ الشّعر، مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشّعر المعروف، وكان يتجنّب التّعقيد، ومستكره الألفاظ، ووحشيّ الكلام؛ فهو بأن يقاس بأشجع السّلمي، ومنصور، وأبي يعقوب المكفوف، وأمثالهم من المطبوعين أولى.