خلاصة:
إنّ مصطلح "عقیدة السلف" -بما یحمله من مضامین فکریّة محدّدة- لم یکن معروفاً إلا فی العصور المتأخّرة؛ أی فی القرن الخامس الهجریّ، کما إنّ عقیدة السلف لم تکن ممّا تداولتها أزمنة التأسیس الأولى للمعرفة الدینیّة، فکان مصطلحاً حادثاً غیر مؤصّل أوجدته نزعات أیدیولوجیّة متشدّدة وربطته بالأجیال الأولى؛ لکی تمنحه القداسة والمقبولیّة، وجعلته عَلَماً على مسلک جماعة هم أهل الحدیث، وأُرید منه مجموعة محدّدات عقدیّة داخل التصوّر العامّ ومجموعة توجّهات فی السلوک.
ویتلخّص مجموع النقد الموجَّه إلى مفهوم "عقیدة السلف" فی أنّ هذا المفهوم لم تستقرّ له سمات فکریّة واضحة وخصائص منهجیّة جلیّة فی العقائد والسلوک، ولم یتحوّل إلى ما انتهت إلیه المذاهب الفقهیّة أو الفرق من تکامل نظریّ ومنهجیّ، وظلّ مفهوماً غیر مؤطّر نظریّاً ولا مؤسّس منطقیّاً، لذلک کثرت الآراء الشاذّة والمتعارضة التی تزعم أنّها من نتاج ذلک المفهوم العقدیّ.
ومن خلال التتبّع الواقعیّ، نجد أنّ هذا المفهوم قد تحوّل إلى أیدیولوجیا تمییزیّة وإقصائیّة، بعد أن تأسّس بانتقائیّة واضحة، ولاسیّما وقد اقترن به مفهوم الفرقة الناجیة، والطائفة المنصورة، وما إلى ذلک من اختزال الأمّة فی جماعة، وکان هذا ما ساد فعلاً فی الواقع التاریخیّ فی القرنین الرابع والخامس، وما اقترن به من فکر ابن تیمیّة الحرانیّ الذی تسبّب فی الأزمات المتعدّدة التی نشأت فی عصره وما بعده، وما حوّلته الوهّابیّة بعد ذلک من مجتهد فی إطار الإسلام له آراؤه یؤخذ منه ویرد علیه، إلى مدرسة فکریّة معصومة ومرجع تصحیحیّ ومعیاریّ للأفکار والتشریعات التی ادّعت -أیضاً- انطلاقها والتزامها بعقیدة السلف، فأشاعت مفهوماً خاصّاً لـ"توحید الله" على وفق فهمهم السلفیّ، وعاقبت الآخرین ممّن یخالفونها حتى فی التفاصیل الدقیقة من دون أدنى تأمّل فی احتمال أن یکون الآخر على شیء من الحقیقة الدینیّة.
إنّ هذا الفکر، أو هذا المنهج، یحمل بذور تطرّفه فی داخله أو فی بنیته الذاتیّة، کما یحملها فی رؤاه وفی فکره، ویحملها فی آراء رجاله وعلمائه، وفی مصادره، وفی مواقفه، ویحملها فی لبّ منهجه الذی یقدِّم حرفیّة النصّ على العقل.