ملخص الجهاز:
"و قد کان المجانین فی جمیع البلدان یساقون فی الأسواق مغلولی الأیدی حفاة مکشوفی الرؤس مطوقی الأعناق بسلاسل طویلة یقودهم بها السجانون و من ورائهم الناس و الأولاد یهزأون بهم و یسخرون منهم الی ان یبلغوا المکان المعد لهم و هو أشبه بسجن فی باطنه حجیرات صغیرة ضیقة منخفضة السقف مظلمة لا ینفذ الیها النور الا من نافذة صغیرة فی السقف أو فی أعل یالجدار و قد سلحت جدرانها بالسلاسل و الأغلال یقید بها المجنون و یزج فیها علی الأرض أو علی مقعد خشبی حیث یقضی لیله و نهاره بعیدا عن النور و الهواء فی جو تتکاثف فیه العفونة و الروائح المنتنة الکریهة الی ان تمد الیه الطبیعة ید الاحسان و الشفقة فتتدارکه باحد أمراضها القتالة و تریحه من مظالم أخیه الانسان.
و من هذه الخلاصة التاریخیة أیها السادة یتبین لنا ان علم الامراض النفسیة و لا نسمیها لعد الیوم بالجنون لما تلوثت به هذه الکلمة من أدران الجهل و الظلم و الوحشیة فی العصور الماضیة-قد تطور تطورا سریعا فی هذه السنین الاخیرة من أساطیر خرافیة-الی علم طبی-الی فن مداواة و وقایة-الی علم اجتماعی ترتکز علیه سعادة الامم و رقیها،و ان المنفوس أی المصاب بآفة نفسیة و لا نسمیه بعد الیوم مجنونا لما تدنست به هذه الکملة من من الحقارة عدم الدلالة علی المعنی العلمی-قد ارتقی من سلیب آلهة أو ملمنوس شیاطین الی أثیم شریر یسجن أو یحرق أو یصلب-الی حیوان مفترس یکبل بالسلاسل و الاغلال- الی بریء یستحق الرأفة و الاحسان-الی مریض معصوم ینتقل ما بین سریر المستشفی وردهات المصح حیث النور و الهواء الطلق و الحدائق و المطاعم و المشاغل مما یعد من مفاخر هذا العصر،و هو یؤید ما قدمته فی بدء هذه المحاضرة:إن أرقی عصور البشریة علما هی التی عرفت فیها ماهیة الجنون و أبهی أیام البشریة حضارة هی التی عوامل فیها المجنون معاملة المرضی بالرأفة و الشفقة و الاحسان."